كلنا الوطن

بقلم الدكتور أحمد صفوت السنباطي بمحكمة النقض: الإدارة الرقمية المصرية نحو تأصيل مبدأ المشروعية في بيئة إلكترونية

-

تشهد مصر تحولًا متسارعًا نحو الرقمية في مختلف قطاعات الإدارة العامة حيث أصبحت الحكومة تسعى إلى تطبيق نماذج الإدارة الرقمية التي تعتمد على التكنولوجيا الحديثة في تقديم الخدمات واتخاذ القرارات وتنظيم العلاقة بين الدولة والمواطن وهو ما يعكس توجهًا استراتيجيًا لبناء دولة رقمية قادرة على تحقيق الكفاءة والشفافية ومكافحة الفساد وتسريع وتيرة التنمية ومع هذا التحول تبرز الحاجة الماسة إلى تأصيل مبدأ المشروعية في البيئة الإلكترونية وهو المبدأ الذي ظل على مدى العقود الماضية يمثل الضمانة الأساسية لخضوع الإدارة العامة للقانون واحترام الحقوق والحريات وعدم الانحراف في استعمال السلطة .

إن المشروعية في بيئة رقمية لا تعني فقط التزام الإدارة بالقانون المكتوب بل تمتد إلى الالتزام بمبادئ الحوكمة الرشيدة والمساءلة والشفافية والعدالة في الوصول إلى الخدمات الرقمية كما أن تأصيل المشروعية الرقمية يستلزم وجود إطار قانوني واضح يحكم استخدام التكنولوجيا في العمل الإداري ويحدد معايير اتخاذ القرارات الإلكترونية والضمانات الواجبة لحماية حقوق الأفراد عند التعامل مع الأنظمة الرقمية إذ أن الانتقال إلى الإدارة الرقمية لا يلغي المسؤولية الإدارية بل يعيد تشكيلها ضمن بيئة جديدة تتطلب أدوات رقابية وتشريعية محدثة ويتطلب هذا التأصيل الدستوري والقانوني مراجعة شاملة للتشريعات الإدارية القائمة بما يضمن ملاءمتها للواقع الرقمي الجديد خاصة من حيث صياغة القرارات الإدارية الإلكترونية والتوقيعات الرقمية وحجية الوثائق الإلكترونية وسبل التظلم من الإجراءات الرقمية فضلًا عن تحديد المسؤولية القانونية حال وقوع أخطاء تقنية أو إدارية أو اعتداء على البيانات الشخصية أو الحقوق الرقمية .

ومن أبرز التحديات التي تواجه الإدارة الرقمية في مصر ضعف البنية القانونية المنظمة للعمل الرقمي الإداري حيث لا يزال الاعتماد قائمًا على قوانين تقليدية لا تتناسب مع سرعة وكثافة التعامل الإلكتروني وهو ما يؤدي إلى فجوة بين التطور التكنولوجي والإطار القانوني المنظم له ويضعف من ضمانات الخضوع للقانون كما أن بعض الجهات الإدارية قد تستخدم التحول الرقمي كذريعة لتقييد الوصول إلى المعلومة أو لفرض أنظمة معقدة تعرقل المواطنين بدلًا من تسهيل الخدمات عليهم مما يبرز الحاجة إلى إدراج مبدأ المشروعية الرقمية ضمن السياسات العامة للدولة على أن يترافق ذلك مع تأهيل الكوادر الإدارية وتدريبها على احترام حقوق المتعاملين إلكترونيًا واتباع قواعد القانون لا فقط قواعد النظام التقني ومن الضروري أن تتدخل المحكمة الإدارية العليا ومجلس الدولة بوصفهما الضمانة القضائية لشرعية القرارات الإدارية في وضع مبادئ قضائية واضحة تعالج طبيعة القرار الرقمي ومدى قابليته للطعن وطرق إثباته ومدى حجية الأنظمة الرقمية في مواجهة الأفراد كما أن على المشرع أن يُسرع في إصدار قانون شامل للإدارة الرقمية يضع القواعد العامة للنظام الإداري الرقمي ويضمن فيه الحقوق الدستورية المكفولة للمواطن في البيئة الإلكترونية بحيث لا تكون الرقمنة على حساب العدالة بل وسيلة لتعزيزها ومن ثم فإن الإدارة الرقمية لا يجب أن تُفهم فقط كتقنية بل كمنظومة قانونية وأخلاقية جديدة تتطلب تأصيلًا حقيقيًا لمبدأ المشروعية في ظل التحول الرقمي الذي تشهده الدولة المصرية .