بقلم الدكتورأحمد صفوت السنباطي: استراتيجية مصر الجديدة لإدارة الأزمات الإقليمية قبل انفجارها

لم تعد مصر تنتظر الأزمة لتقع ثم تبحث عن مخرج، لم تعد تكتفي بدور "طافي الحرائق" الذي يتحرك بعد أن تلتهم النيران كل شيء، لقد أدركت القيادة المصرية أن الفعل الاستباقي أرخص ألف مرة من رد الفعل، وأن الدور الإقليمي الحقيقي لا يُبنى في ساحات التفاوض بعد الحرب، بل في غرف العمليات الخلفية قبل أن تطلق أول رصاصة هذه الاستراتيجية الجديدة تشبه عمل الطبيب التشريحي الذي يفحص الجسد الإقليمي بحثًا عن الخلايا السرطانية قبل أن تنتشر، إنها تراقب بذور الأزمة وهي كامنة في ملفات مثل سد النهضة وأمن البحر الأحمر وتمدد الجماعات المسلحة وأزمات الاقتصاد في دول الجوار، فهي لا ترى هذه الملفات كتحديات منفصلة، بل كخريطة مترابطة لأي انفجار محتمل الدبلوماسية المصرية اليوم تتحدث بلغة مختلفة، لغة الإنذار المبكر، فقبل سنوات من أزمة سد النهضة كانت الصوت الذي يحذر في المحافل الدولية من كارثة إنسانية تهدد 150 مليون نسمة في حوض النيل، محوّلة الأزمة من مشكلة ثنائية مع إثيوبيا إلى قضية دولية تتعلق بالأمن المائي والاستقرار العالمي في ليبيا، لم تنتظر مصر حتى سقوط طرابلس بيد ميليشيات متطرفة لتهبّ مدفوعة بالذعر، بل رسمت خطًا أحمر واضحًا لمنع تحول البلاد إلى بؤرة إرهاب تهدد حدودها مباشرة، مكرسة مبدأ أن الأمن المصري يبدأ عند حدودها الغربية لكنه لا ينتهي هناك في قطاع غزة، الاستراتيجية لم تعد مجرد إدارة للمعبر في أوقات الحرب، بل أصبحت عملية معقدة لاحتواء الاحتقان الداخلي عبر وساطات مستمرة بين الفصائل الفلسطينية نفسها وبينها وبين إسرائيل، محاولةً نزع فتيل المواجهة قبل أن يشتعل، لأنها تدرك أن حرب غزة لا تحترق فيها البيوت الفلسطينية وحدها، بل يحترق معها الاستقرار الكامل لشبه جزيرة سيناء حتى في العلاقات المعقدة مع قطر وتركيا، لم يكن التطبيع مجرد صفحة جديدة، بل كان جزءًا من استراتيجية أكبر لإعادة ترتيب البيت الإقليمي، وعزل نقاط التوتر، وتحويل الخصوم إلى شركاء في إدارة الأزمات، أو على الأقل تحييدهم كعوامل تخريب القلب النابض لهذه الاستراتيجية هو مفهوم "الأمن القومي الشامل"، الذي لم يعد يعترف بفصل الأمن العسكري عن الأمن المائي أو الغذائي أو الاقتصادي، فالجفاف في إثيوبيا قد يسبب مجاعة في مصر، والانهيار الاقتصادي في السودان قد يفتح باب الهجرة غير الشرعية والجريمة المنظمة، والاضطراب في ليبيا يهدد حقول الغاز التي تُشغّل المصانع وتُضيء المدن لذلك فإن الدبلوماسي المصري اليوم يشبه لاعب الشطرنج المحترف الذي يفكر في عشرة حركات قادمة، لا في الرد على الحركة الحالية فقط، يحاول تحريك قطعه بنعومة وقوة لاحتواء أي تهديد في مهده التحدي الأكبر لهذه الاستراتيجية هو العمل في صمت وبدون ضجيج إعلامي، لأن نجاحها يقاس بالأزمات التي لم تحدث، بالحروب التي لم تندلع، بالكوارث التي منعت قبل أن تظهر للعلن، وهو نجاح غير مرئي للجمهور الذي يتعطش للخطابات النارية والمواقف الدراماتيكية لكن التاريخ سيسجل أن مصر في هذه الحقبة، استبدلت شعار "صناعة الأبطال" بشعار أكثر حكمة وعمقًا هو "منع الكوارث"، لأن البطل الحقيقي هو من يمنع المعركة من الأساس، لا من ينتصر فيها