كلنا الوطن

الدكتور أحمد صفوت السنباطي يكتب: الأمن الغذائي المصري من الاستيراد إلى الاكتفاء الذكي

-

لم تعد قضية الأمن الغذائي في مصر مجرد مسألة اقتصادية تتعلق بالميزان التجاري أو احتياطي النقد الأجنبي، بل تحولت إلى قضية أمن قومي وجودي، تمس حياة الملايين وتؤثر على استقرار الوطن، فالفجوة الغذائية المتسعة بين الإنتاج المحلي والاستهلاك المتزايد جعلت مصر رهينة لتقلبات الأسواق العالمية وسياسات الدول المصدرة في مواجهة هذا التحدي المصيري، لم يعد النموذج التقليدي الساعي للاكتفاء الذاتي الكامل خياراً واقعياً، بل نحن بحاجة إلى نموذج أكثر ذكاءً ومرونة، هو "الاكتفاء الذكي"، الذي لا يسعى لإنتاج كل شيء، بل يركز على تحقيق الأمن الغذائي من خلال مزيج استراتيجي من الإنتاج المحلي للأغذية الاستراتيجية، والاستيراد المدروس، والتخزين الاستراتيجي، والاستثمار الخارجي في الزراعة.

يقوم هذا النموذج على إعادة هيكلة الخريطة الزراعية في مصر، من خلال التخلي عن المحاصيل الشرهة للمياه والتي لم تعد مصر قادرة على تحمل تكلفتها المائية الباهظة، والتحول إلى محاصيل استراتيجية ذات أولوية مثل القمح والذرة والبقوليات والسكر، مع استخدام أحدث تقنيات الزراعة الذكية مثل الري بالتنقيط الدقيق والزراعة التعاقدية والزراعة الرأسية، لتعظيم الإنتاجية من كل قطرة ماء ومن كل شبر أرض في نفس الوقت، يمكن الاستغناء عن محاصيل مثل الأرز وقصب السكر بشكل تدريجي، واللجوء لاستيرادها من أسواق عالمية متنوعة، مما يوفر مليارات الأمتار المكعبة من المياه التي يمكن توجيهها لمحاصيل أكثر أهمية.

الزراعة التعاقدية هي العمود الفقري لهذا النموذج، حيث يتم التعاقد مع المزارعين مسبقاً على إنتاج محاصيل استراتيجية بمواصفات محددة وبأسعار مضمونة، مما يضمن للمزارع سوقاً لمنتجته ويضمن للدولة تدفقاً منتظماً من المحاصيل الاستراتيجية بجودة عالية هذا النهج يحتاج إلى دعم بزراعات حديثة مقاومة للجفاف والملوحة، وتوفير البذور المحسنة والأسمدة الذكية للمزارعين، وربطهم بمنظومة تسويق فعالة تحول الزراعة من مهنة لكسب العيش إلى صناعة منتجة ومربحة.

لا يمكن فصل الأمن الغذائي عن الأمن المائي، لذلك يجب أن يكون الابتكار في ترشيد المياه جزءاً أساسياً من هذه الاستراتيجية، من خلال التوسع في استخدام مياه الصرف المعالجة بشكل آمن في زراعة المحاصيل غير الغذائية والأعلاف، والاستفادة من مياه الأمطار في المناطق الساحلية والشمالية كما أن التوسع في نظم الزراعة بدون تربة "الهيدروبونيك" حول المدن الكبرى يمكن أن يوفر خضروات طازجة بأقل استهلاك للمياه.

المكون الاستراتيجي الأخير في نموذج "الاكتفاء الذكي" هو إنشاء صندوق سيادي للأمن الغذائي، يستثمر في مشاريع زراعية خارج مصر في دول حوض النيل وأفريقيا، تنتج محاصيل استراتيجية لمصر، مما يحقق عائداً مزدوجاً لضمان تدفق السلع الاستراتيجية وتنويع مصادر الاستيراد، وتحقيق عوائد مالية للصندوق بهذه الرؤية المتكاملة، تتحول مصر من دولة مستوردة للغذاء إلى دولة تتحكم في أمنها الغذائي، من خلال إدارة ذكية للموارد، وشراكات استراتيجية، واستثمارات محلية وخارجية مدروسة، تضع الأمن الغذائي في قلب أولوياتها الوطنية